كلمات عن أسلوب ومنهاج درس صحيح البخاري للشيخ أمين

إن درس صحيح البخاري للشيخ امين درس فريد في بابه ونسيج وحده في أسلوبه، فإنه لا يجري على خطو الدروس الحديثية العام وطريقتها الشائعة اليوم في مدارسنا بالأسف، من قراءة الأحاديث سردا تكاد تكون تلاوتها حدرا مع ملاحظة يسيرة وتعليقة وجيزة من الأستاذ على مواضع قليلة ونقاط زهيدة. ولا يجري على نمط الدروس الأخرى كذلك، من الالتزام بعبارة الكتاب وألفاظه واللبث في أرجاء المسائل والمباحث الواردة فيه في الأغلب الأعم، وإن كانت الدروس الأخرى تخرج عن حدودها يسيرا. بل يجري درس صحيح البخاري للشيخ أمين على نهج مختلف وشاكلة مستقلة تماما، تكون القراءة فيه متأنية متأملة، يعطى كل كلمة وسطر حقها من إمعان النظر وإقبال الفكر. ويخوض الشيخ في أعماق الأحاديث ويتمهل في رحابها، يبيّن ألفاظها وجُملها ويوضّح أمثالها وحِكمها ويطوّل في شرحها وتفهيمها، ويسترسل في استنتاج الفوائد واستنباط العوائد، ويستطرد الى بيان لوازم دقيقة وجلاء معاني خفية، فينتقل في ذكر تفاصيل لواقعة مذكورة في الحديث الى استخراج العِبر والنصائح المكنوزة فيها، وينطلق من تقرير حكم وارد في الخبر الى بيان الفلسفة والنظرية الواسعة وراءه. فليس درسه درسا لصحيح البخاري فحسب، بل هو درس للدين كله، يلمس جميع علومه ويغترف من سائر فنونه، فلا بد للمشاركة فيه والانتفاع به من التمكن في العلوم الشرعية كلها الآلية والعالية، حتى يمكن تقدير الحديث حق قدره والارتواء من ينابيع نوره حق رويّه

ولا شك ان هذا الدرس يتّسم ببعض السمات على وجه الخصوص تتجلى فيها شخصية الشيخ العلمية. فمنها أنه يهتمّ بوضع كل كلام في موضعه اللائق وبترتيب كل معنى ترتيبًا تتّسق به الحقائق. فيؤصّل أصولا ويقعّد قواعد تلتئم بها الفروع وتنتسج بها الفصول، ويلقي مفاهيم تبيّن كيف يمثّل الحديث جزءًا من النظام التكوينيّ أو عنصرًا من النظام التشريعي، ويطرح نظريات تربط النصوص المختلفة وتظهر علاقات دقيقة بين أحكام متباينة وأخبار متباعدة، فيتجلى توافقها وانسجامها حتى تتبدى صورة واحدة متكاملة للشريعة والدين والكون. وكذلك يهتمّ بتحرير معاني اصطلاحات الشرع ومغازي عبارات النصوص بطريق يزيل الاشكال في فهم ماهيتها ومعناها وإدراك حقيقتها وفحواها، وفي تطبيق حكمها في الحياة وإعمال ارشادها في المجتمع

فيجري في درسه الكثير من استخراج الأصول من الفروع واستنتاج الكليات من الجزئيات، وكذلك العكس أي تخريج الأصول على الفروع وتطبيق القواعد العامة على حوادث واحكام خاصة. فيشرح حديثا وفيه ذكر حادثة أو قضية جزية أو حكم جزئي، فيطبّق عليه كلية من كليات الشريعة ويوفّقه مع قانون من قوانين التكوين. وكذلك يشرح حديثا فيه ذكر قاعدة جامعة وأصل عام من أصول الشرع وقواعده، فيذكر مثالا أو أمثلة على انطباقه على جزئيات وفروع مختلفة وتمثُّله فيها. مثالهما حين قام أبو سفيان في إيوان قصر هرقل أمام عظماء الروم، ومثّل دين الإسلام أحسن تمثيل وبلّغ تعاليم النبي ﷺ أحسن تبليغ وهو إذ ذاك منكر للإسلام، فكان هذا اظهر مثال للقاعدة الكلية التكوينية في قوله ﷺ: «إنَّ اللهَ ليُؤيِّدُ هذا الدِّينَ بالرجلِ الفاجرِ». ومثله قوله ﷺ: «إذا ضُيِّعَتِ الأمانَةُ فانْتَظِرِ السّاعَةَ. قالَ: كيفَ إضاعَتُها يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: إذا أُسْنِدَ الأمْرُ إلى غيرِ أهْلِهِ فانْتَظِرِ السّاعَةَ»، فإن ضياع الأمانة في الحديث مطلقة وكذا تفسيره بتوسيد الأمر الى غير أهله مطلق فيتضمن أنواعا متعددة، منها المتبادر وهو ضياع الأمانة الحكومية بتوسيد أمر السيادة الى الخائن في أموال الناس أو الجاهل بأمور السياسة. ولكن كذلك منها ضياع الأمانة العلمية، وذلك بتوسيد أمر التعليم والتصنيف الى الجهلاء، وذلك يتوافق مع الحديث الآخر: «إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَماءِ، حتّى إذا لَمْ يُبْقِ عالِمًا اتَّخَذَ النّاسُ رُؤُوسًا جُهّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا». فعُلم من الحديثين انه لا بد من التأهل العلمي الوثيق في أيام الدراسة، والا لم يُؤمن من الوقوع في وعيد هذا الحديث

ويكثُر في الدرس تحرير معنى النص ومفهومه بمعنى غير المتبادر، بل غير المظنون المستقر في أفهام الناس عامةً. فأحيانا يوسّع الشيخ فيما يتناوله مفهوم الاصطلاح الشرعي ويدقّق فيه أُخرى، فيكشف كيف ينتسق ويتطابق المفهوم المحرَّر للاصطلاح مع استعمالاته المختلفة المتنوعة – التي ربما يظن المبتدئ الغمر من اختلافها وتنوّعها ان مدلولاته متضادة، أو لا مدلول له أصلا – فكيون شاملا لها متماشيا معها. فمثال التحرير بالتدقيق هو مفهوم الحياء من الايمان، وهو أن الحياء اصطلاح شرعيّ يكون تحديد مدلوله بالشرع لا الغير وإن كان مستمدّا من اللغة، فهو صفة نفسية قلبية تسدّ المؤمن عن الإثم وتحفظه عنه. فكل ما كان إثما كان ناقضا للحياء مخالفا له، والإثم يعرّفه الشرع لا العرف أو أهواء الناس أو مثل ذلك، ولا بد من التنبه الى هذا حتى لا يقع التخبط والاضطراب في تصوّر الحياء، خاصة في زماننا الذي زاغت فيه قلوب الناس أيما زيغان. ومثال التحرير بالتوسيع هو مفهوم اصطلاحي ’الصدقة‘ و ’الجود‘، فبيّن الشيخ ان مفهومهما في الإسلام أوسع من الانفاق بالمال فحسب، بل يتعدى إلى جميع أعمال الخير، انفراديةً كانت ام اجتماعيةً، اذ إن كنه الصدقة والجود وهويّتهما هو نفع الغير وإفادة الخلق، ومصداقه في قوله ﷺ «كُلُّ سُلامى مِنَ النّاسِ عليه صَدَقَةٌ، كُلَّ يَومٍ تَطْلُعُ فيه الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، ويُعِينُ الرَّجُلَ على دابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عليها، أوْ يَرْفَعُ عليها مَتاعَهُ صَدَقَةٌ، والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، ويُمِيطُ الأذى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ». ولا عمل أنفع للخلق ولا أكثر خيرا له من ربطه بالخالق، ومثلُه تسبيب نزول رحمات الرب وبركاته على العباد بنشر الدين والعلم فيهم والدعاء لهم ونحو ذلك. هذا، ويدخل فيه العبادات الانفرادية كالذكر والتلاوة والاعتكاف كذلك وإن لم تكن تبدو في الظاهر ان خيرها تتعدى الى الخلق، لما قد أخبرنا الشرع أن رحمة الله تعالى وبركاته تنزل على الأرض بالقُرُبات، فتنتفع بها أهل الأرض قاطبةً. وهذه النُكتة والاشارة موجودة في وصف ابن عباس  بأن النبي ﷺ كان أجود ما يكون في رمضان، مع انه معلوم ان النبي ﷺ كان يعتكف في رمضان ويعتزل الناس من أجله ويكبّ على العبادة وقراءة القرآن ومدراسته مع جبريل، فلا يتعين مراده بالجود بإنفاق المال والإطعام وإن كانا داخلا فيه، بل مراده أوسع وأعمق

وكذلك يجري فيه – وهو قريب من السابق – التقسيم والتصنيف العلمي، فيجعل للأشياء اقساما وأصنافا حتى يسْلَم العقل وينجو الفكر من توهم التعارض، ويعيّن لكل قسم وصنف موضعه المخصوص ومورده المعيَّن. وكذلك التنبيهُ الى بعض الأوهام والأخطاء الشائعة بين العوام وكثير من طلبة العلم – وحتى بين بعض العلماء ممن طال عهدهم بالعلم – التي كثيرا ما تنشأ من عدم التفطن الى مثل هذه التقاسيم. إن مثالهما التفريق الباطل بين العلم الديني والدنيوي، وتقسيمهما الصحيح الى العلم النافع والأنفع. وذلك انه قد ورد فضل تحصيل العلم والحث عليه في كثير من النصوص، ويظن الظانّ ان ذلك مقتصر على العلم الشرعي دون غيره، ولكن هذا فاسد، فالمراد بالعلم في مثل هذه النصوص هو العلم النافع وهو لا يختص بالعلوم الشرعية بل يشمل ما يسمى اليوم بالعلوم ’الدنيوية‘ كذلك، وهذا التفريق مستحدث دخيل وهو مردود عندنا وحسب حضارتنا وتراثنا. بل كل علم يؤدي الى جلب مصالح الناس في الدنيا هو علم نافع اذ بذلك يتيسر لهم القيام بأمور الدين ومجتمع الإسلام. والأدلة على هذا كثيرة ظاهرة، فإن الخلافة ما أقيمت الا لإنجاز مصالح الناس وشؤون دنياهم كما قد أقيمت لإنفاذ متطلَّبات دينهم، ولا يمكن بناء المساجد الا بمعرفة فنون الهندسة والرياضات، ولا اجراء نظام الزكاة الا بمعرفة فنون الحساب، وهلم جرا. وقد علّم الله نوحًا علم صناعة السفينة، كما علّم داود علم صنعة اللبوس، وما الى ذلك من العلوم غير الشرعية التي علّمها الله الأنبياء، كانت نافعة بأسرها. وإنما كانت العلوم الشرعية انفع لكونها تتعلق بالباقية لا بالفانية

وينبّه الشيخ في الدرس أيضا الى إرشادات جامعة لإصلاح الأمّة المسلمة وتطويرها وتكوين المجتمع الإسلامي، ومثاله شرحه للحديث: «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلّا غَلَبَهُ»، فمعنى الشطر الأول أن الدين يسير كما هو، فلا يحاولنّ أحد أن ييسّره مزيدا في زعمه بنقصان منه أو تبديل شيء منه أو تحليل ما حرّمه، ويشير الشطر الثاني الى أن تعسيره والتشدد فيه مردود كذلك، فيجب أن يُبقى على حاله من الاعتدال المطّرد. وينشأ منه سؤال: ما معنى أمثال الأحاديث «يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا»؟ معناه انه يجب على العلماء ان يقوموا بذلك بطريق تعليم الناس دينهم وتربيتهم، وبالبحث عن حلول فقهية أصيلة حتى يمكن للناس البقاء في حدود الشريعة مهما تغيّرت الأحوال والظروف، ويجب على ولاة الامر وأصحاب القدرات والثروات ان يسهّلوا العمل على الدين بطريق توفير المرافق والوسائل وتأسيس بناء المجتمع الصحيح. ومن أعظم الأمثلة لذلك النكاح، فإنه يجب على أصحاب الحل والعقد ان ييسّروا النكاح على ناشئتهم وشبابهم وأن يزيلوا التقاليد الغريبة الدخيلة الحائلة بين عقود النكاح، كاشتراط الجانبين شروطًا لا طائل تحتها لاختيار الزوج، وكالتكلّفات الباطلة التي تعوق الشاب من ان يواجه والد البنت، والتي تمنع الوالد من ان يبحث عن زوج لابنته، ومن أن يكون هو المتقدم في إنشاء الخِطبة إن كان قد وجد رجلا صالحا مناسبا لابنته فإنه يظن في زعمه الباطل ان ذلك لا يليق به، معاذ الله من كل ذلك

وكذلك يجري في الدرس ربط النصوص المختلفة وجعْلها في سلسلة متصلة الحلقات ليظهر بها مفهوم واسع مؤصّل، ومثاله ربط الأحاديث التالية في مفهوم جامع لنشر العلم كنظم الدرر في سلك، فقال في شرح قوله ﷺ «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» ان الفقه ليس معرفةَ الأحكام والفروع فحسب، بل هو مع معرفة الأدلة والعلل والحِكَم وراءها، ومعرفة طريقة تطبيقها الصحيح الملائم للظروف والمناسب للأحوال، حتى يكون على وفق أرادة الله وشريعته. ولا بدّ لإنجاز هذا من علم كليات الدين ومقاصده وأسراره ونظرياته، وذلك يحتاج الى دراسة طويلة عميقة. ويتلو منه ان العلم والفقه في المرء يجب ان يسبّب الخير للناس، فإن كان يسبّب فيهم الحرج والضرر والنفرة من الدين والشك فيه وغيرها من أنواع الشر فليس ذلك بعلم ولا فقه، بل جهل محض. وينضم الى هذا قول عمر: “تفقهوا قبل ان تزوّدوا”، أي تعلموا هذه الصناعة الدقيقة وتمرنوا عليها قبل ان تُنصبوا على مناصب يُنفذ فيها قولكم، فإما ان تسبّب الخير لهم وتيسّر لهم العمل على دينهم، وإما ان تسبّب الحرج فيهم وتعسّر الدين عليهم. فيتصل به قول النبي ﷺ: «يسّروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»، وقول ابن عباس: “{كونوا ربانيين} حكماء علماء فقهاء، ويقال: ’الرباني‘ الذي يربّي الناس بصغار العلم قبل كباره”، فالعالم الرباني هو الذي يربّي الناس على صغار العلم – التي تسوغ لهم بسهولة – أولا ، ثم لا يقف عندها بل يرتقي بهم بتدريب أذهانهم على العقيدة الصحيحة وتقوية ايمانهم وشحذ عزائمهم بالترغيب والتبشير الى ان يكونوا قادرين على كبار العلم، ويسهُل لهم ما شقّ عليهم من قبلُ من اطاعة الشرائع وتحمّل الشدائد، فيكون العالم بهذا ممتثلا بأمر النبي ﷺ بالتيسير والتبشير من دون ان يقع في التحريف والتزييف. ويمتّ لهذا بأقرب صلةٍ أهميةُ معرفة جانبَي الإطار الفكري لعلم الدين وتعليمه: الجانب القانوني (القضائي) والجانب الإصلاحي، المشار اليهما في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ﴾ وقوله: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها﴾. فمن ضعُف ايمانُه وجهل صغار العلم – فضلا عن كباره – فلم يتحملها وحاولتَ انفاذ الجانب القانوني معه عسّرت له ونفّرته لا محالة، ومن كان قوي الايمان وتحمّل كبار العلم وأجريت الجانب الإصلاحي معه اغربت له وضررت دينه. فلا بد من إنزال الناس منازلهم والتعامل معهم حسب قدراتهم من دون إهمال تربيتهم والارتقاء بهم

وختاما، يظهر من خلال هذه السمات لدرس صحيح البخاري للشيخ أمين انه درس يطالب حدة الذهن وحضور الوعي، ويقتضي قدرا من الكفاءة في مختلف العلوم الشرعية وإلمامًا مع شتى مسائلها الدقيقة، خاصة في علم الأصول وعلم الكلام. فليس منهج الدرس إلقاء المعلومات من الأستاذ واستماع الطلاب لها فحسب، بل الدرس يجبر الطالب على ان يفكر في الحديث ومدلوله ومفهومه، وفي أثره في علم الطالب وتصوّرِه للدين والواقع، ويُلزِمه بأن يعيد النظر فيما كان يظن انه يعرفه عن المواضيع والمباحث الواردة في الكتاب، وأن يجول ثانيا في الإطار الفكري الذي كان يتكفر من خلاله الى الآن، مترقبا هفوات عقله ومتتبعا خلالَ فهمه هذه المرةَ. فيمرّن عقله أن يتصور الدين ويتعقل النصوص في إطار جديد، مدعم بقواعد ومستحكم بأصول، وأن يدرب نظره بأن يثقب للمعاني بعمق أكثر ودقة أشد. ونسأل الله التوفيق ان يرزقنا فهم كلامه وكلام نبيه كما يحب ويرضى، اللهمّ آمين